الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **
-والقول المحيط بأصول هذا الكتاب يشتمل بالجملة على سبعة أبواب: الباب الأول في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها. الثاني: معرفة من تجوز له هذه الطهارة. الثالث: في معرفة شروط جواز هذه الطهارة. الرابع: في صفة هذه الطهارة. الخامس: فيما تصنع به هذه الطهارة. السادس: في نواقض الطهارة. السابع: في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها. -اتفق العلماء على أن هذه الطهارة هي بدل من الطهارة الصغرى، واختلفوا في الكبرى، فروى عن عمر وابن مسعود أنهما كانا لا يريانها بدلا من الكبرى، وكان علي وغيره من الصحابة يرون أن التيمم يكون بدلا من الطهارة الكبرى، وبه قال عامة الفقهاء. والسبب في اختلافهم الاحتمال الوارد في آية التيمم، وأنه لم تصح عندهم الآثار الواردة بالتيمم للجنب، أما الاحتمال الوارد في الآية فلأن قوله تعالى وكان سيان أن لا يسرحوا نعما * أو يسرحوه بها واغبرت السرح فإنه إنما يقال: سيان زيد وعمرو. وهذا هو أحد الأسباب التي أوجبت الخلاف في هذه المسألة. وأما ارتيابهم في الآثار التي وردت في هذا المعنى فبين مما خرجه البخاري ومسلم: أن رجلا أتى عمر رضي الله عنه فقال: أجنبت فلم أجد الماء، فقال: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به" وفي بعض الروايات: أنه قال له عمر: نوليك ما توليت وخرج مسلم عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله لأبي موسى: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة -وأما من تجوز له هذه الطهارة، فأجمع العلماء أنها تجوز لاثنين: للمريض والمسافر إذا عدما الماء. واختلفوا في أربع: المريض يجد الماء ويخاف من استعماله، وفي الحاضر يعدم الماء، وفي الصحيح المسافر يجد الماء فيمنعه من الوصول إليه خوف، وفي الذي يخاف من استعماله من شدة البرد. فأما المريض الذي يجد الماء ويخاف من استعماله، فقال الجمهور: يجوز التيمم له؛ وكذلك الصحيح الذي يخاف الهلاك أو المرض الشديد من برد الماء، وكذلك الذي يخاف من الخروج إلى الماء، إلا أن معظمهم أوجب عليه الإعادة إذا وجد الماء، وقال عطاء: لا يتيمم المريض ولا غير المريض إذا وجد الماء. وأما الحاضر الصحيح الذي يعدم الماء، فذهب مالك والشافعي إلى جواز التيمم له، وقال أبو حنيفة: لا يجوز التيمم للحاضر الصحيح وإن عدم الماء، وسبب اختلافهم في هذه المسائل الأربع التي هي قواعد هذا الباب؛ أما في المريض الذي يخاف من استعمال الماء، فهو اختلافهم: هل في الآية محذوف مقدر في قوله تعالى -وأما معرفة شروط هذه الطهارة، فيتعلق بها ثلاث مسائل قواعد: إحداها: هل النية من شرط هذه الطهارة أم لا؟. والثانية: هل الطلب شرط في جواز التيمم عند عدم الماء أم لا؟. والثالثة: هل دخول الوقت شرط في جواز التيمم أم لا؟. -وأما صفة هذه الطهارة فيتعلق بها ثلاث مسائل هي قواعد هذا الباب. -وفيه الباب السادس في نواقض هذه الطهارة. -وأما نواقض هذه الطهارة فإنهم اتفقوا على أنه ينقضها ما ينقض الأصل الذي هو الوضوء أو الطهر، واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما هل ينقضها إرادة صلاة أخرى مفروضة غير المفروضة التي تيمم لها؟. والمسألة الثانية هل ينقضها وجود الماء أم لا؟. -(أما المسألة الأولى) فذهب مالك فيها إلى أن إرادة الصلاة الثانية تنقض طهارة الأولى، ومذهب غيره خلاف ذلك. وأصل هذا الخلاف يدور على شيئين: أحدهما هل في قوله تعالى -( الباب السابع في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها -واتفق الجمهور على أن الأفعال التي هذه الطهارة شرط في صحتها هي الأفعال التي الوضوء شرط في صحتها من الصلاة ومس المصحف وغير ذلك، واختلفوا هل يستباح بها أكثر من صلاة واحدة فقط؟ فمشهور مذهب مالك أنه لا يستباح بها صلاتان مفروضتان أبدا، واختلف قوله في الصلاتين المقضيتين، والمشهور عنه أنه إذا كانت إحدى الصلاتين فرضا والأخرى نفلا أنه إذا قدم الفرض جمع بينهما، وإن قدم النفل لم يجمع بينهما. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز الجمع بين صلوات مفروضة بتيمم واحد. وأصل هذا الخلاف هو: هل التيمم يجب لكل صلاة أم لا؟ إما من قبل ظاهر الآية كما تقدم، وإما من قبل وجوب تكرار الطلب، وإما من كليهما. كتاب الطهارة من النجس. -والقول المحيط بأصول هذه الطهارة وقواعدها ينحصر في ستة أبواب. الباب الأول: في معرفة حكم هذه الطهارة: أعني في الوجوب أو في الندب إما مطلقا وإما من جهة أنها مشترطة في الصلاة. الباب الثاني: في معرفة أنواع النجاسات. الباب الثالث: في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها. الباب الرابع: في معرفة الشيء الذي تزال به. الباب الخامس: في صفة إزالتها في محل محل. الباب السادس: في آداب الإحداث. الباب الأول في معرفة حكم هذه الطهارة. -والأصل في هذا الباب إما من الكتاب، فقوله تعالى الباب الثاني في معرفة أنواع النجاسات. -وأما أنواع النجاسات، فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحا، أعني كثيرا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه، وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين، واختلفوا في غير ذلك، والقواعد من ذلك سبع مسائل: -(المسألة الأولى) اختلفوا في ميتة الحيوان الذي لا دم له، وفي ميتة الحيوان البحري، فذهب قوم إلى أن ميتة ما لا دم له طاهرة، وكذلك ميتة البحر، وهو مذهب مالك وأصحابه، وذهب قوم إلى التسوية بين ميتة ذوات الدم والتي لا دم لها في النجاسة، واستثنوا من ذلك ميتة البحر، وهو مذهب الشافعي، إلا ما وقع الاتفاق على أنه ليس بميتة مثل دود الخل وما يتولد في المطعومات، وساوى قوم بين ميتة البر والبحر، واستثنوا ميتة ما لا دم له، وهو مذهب أبي حنيفة. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى -(المسألة الثانية) وكما اختلفوا في أنواع الميتات كذلك اختلفوا في أجزاء ما اتفقوا عليه أنه ميتة، وذلك أنهم اتفقوا على أن اللحم من أجزاء الميتة ميتة. واختلفوا في العظام والشعر، فذهب الشافعي إلى أن العظم والشعر ميتة، وذهب أبو حنيفة إلى أنهما ليسا بميتة، وذهب مالك للفرق بين الشعر والعظم فقال: إن العظم ميتة وليس الشعر ميتة. وسبب اختلافهم هو اختلافهم فيما ينطلق عليه اسم الحياة من أفعال الأعضاء. فمن رأى أن النمو والتغذي هو من أفعال الحياة قال: إن الشعر والعظام إذا فقدت النمو والتغذي فهي ميتة. ومن رأى أنه لا ينطلق اسم الحياة إلا على الحس قال: إن الشعر والعظام ليست بميتة لأنها لا حس لها. ومن فرق بينهما أوجب للعظام الحس ولم يوجب للشعر. وفي حس العظام اختلاف، والأمر مختلف فيه بين الأطباء، ومما يدل على أن التغذي والنمو ليسا هما الحياة التي يطلق على عدمها اسم الميتة، أن الجميع قد اتفقوا على أن ما قطع من البهيمة وهي حية أنه ميتة لو زود ذلك في الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" واتفقوا على أن الشعر إذا قطع من الحي أنه طاهر، ولو انطلق اسم الميتة على من فقد التغذي والنمو لقيل في النبات المقلوع إنه ميتة، وذلك أن النبات فيه التغذي والنمو، وللشافعي أن يقول إن التغذي الذي ينطلق على عدمه اسم الموت هو التغذي الموجود في الحساس. -(المسألة الثالثة) اختلفوا في الانتفاع بجلود الميتة، فذهب قوم إلى الانتفاع بجلودها مطلقا دبغت أو لم تدبغ، وذهب قوم إلى خلاف هذا، وهو ألا ينتفع به أصلا، وإن دبغت وذهب قوم إلى الفرق بين أن تدبغ وأن لا تدبغ، ورأوا أن الدباغ مطهر لها، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أن الدباغ لا يطهرها، ولكن تستعمل في اليابسات، والذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة من الحيوان: أعني المباح الأكل، واختلفوا فيما لا تعمل فيه الذكاة، فذهب الشافعي إلى أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة فقط، وأنه بدل منها في إفادة الطهارة. وذهب أبو حنيفة إلى تأثير الدباغ في جميع ميتات الحيوان ما عدا الخنزير. وقال داود: تطهر حتى جلد الخنزير. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في حديث ميمونة إباحة الانتفاع بها مطلقا، وذلك أن فيه أنه مر بميتة، فقال عليه الصلاة والسلام "هلا انتفعتم بجلدها؟" وفي حديث ابن عكيم منع الانتفاع بها مطلقا، وذلك أن فيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" قال: وذلك قبل موته بعام. وفي بعضها الأمر بالاتنفاع بها بعد الدباغ والمنع قبل الدباغ، والثابت في هذا الباب هو حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" فلمكان اختلاف هذه الآثار اختلف الناس في تأويلها، فذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عباس، أعني أنهم فرقوا في الانتفاع بها بين المدبوغ وغير المدبوغ. وذهب قوم مذهب النسخ، فأخذوا بحديث ابن عكيم لقوله فيه موته بعام. وذهب قوم مذهب الترجيح لحديث ميمونة، ورأوا أنه يتضمن زيادة على ما في حديث ابن عباس، وأن تحريم الانتفاع ليس يخرج من حديث ابن عباس قبل الدباغ، لأن الاتنفاع غير الطهارة، أعني كل طاهر ينتفع به، وليس يلزم عكس هذا المعنى، أعني أن كل ما ينتفع به هو طاهر. -(المسألة الرابعة) اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس، واختلفوا في دم السمك، وكذلك اختلفوا في الدم القليل من دم الحيوان غير البحري، فقال قوم: دم السمك طاهر، وهو أحد قولي مالك ومذهب الشافعي. وقال قوم: هو نجس على أصل الدماء، وهو قول مالك في المدونة. وكذلك قال قوم: إن قليل الدماء معفو عنه. وقال قوم: بل القليل منها والكثير حكمه واحد، والأول عليه الجمهور. والسبب في اختلافهم في دم السمك هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم جعل دمه كذلك، ومن أخرج ميتته أخرج دمه قياسا على الميتتة، وفي ذلك أثر ضعيف وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان الجراد والحوت، والكبد والطحال". وأما اختلافهم في كثير الدم وقليله فسببه اختلافهم في القضاء بالمقيد على المطلق أو بالمطلق على المقيد، وذلك أنه ورد تحريم الدم مطلقا في قوله تعالى -(المسألة الخامسة) اتفق العلماء على نجاسة بول ابن آدم ورجيعه إلا بول الصبي الرضيع، واختلفوا فيما سواه من الحيوان، فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها كلها نجسة. وذهب قوم إلى طهارتها بإطلاق، أعني فضلتي سائر الحيوان البول والرجيع. وقال قوم: أبوالها وأرواثها تابعة للحومها، فما كان منها لحومها محرمة فأبوالها وأرواثها نجسة محرمة، وما كان منها لحومها مأكولة فأبوالها وأوراثها طاهرة، ما عدا التي تأكل النجاسة، وما كان منها مكروهة فأبوالها وأوراثها مكروهة، وبهذا قال مالك كما قال أبو حنيفة بذلك في الأسآر. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في مفهوم الإباحة الواردة في الصلاة في مرابض الغنم، وإباحته عليه الصلاة والسلام للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها، وفي مفهوم النهي عن الصلاة في أعطان الإبل. والسبب الثاني اختلافهم في قياس سائر الحيوان في ذلك على الإنسان، فمن قاس سائر الحيوان على الإنسان ورأى أنه من باب قياس الأولى والأحرى لم يفهم من إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها جعل ذلك عبادة، ومن فهم من النهي عن الصلاة في أعطان الإبل النجاسة وجعل إباحته للعرنيين أبوال الإبل لمكان المداواة على أصله في إجازة ذلك قال: كل رجيع وبول فهو نجس، ومن فهم من حديث إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها وكذلك من حديث العرنيين وجعل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل عبادة أو لمعنى غير معنى النجاسة، وكان الفرق عنده بين الإنسان وبهيمة الأنعام أن فضلتي الإنسان مستقذرة بالطبع وفضلتي بهيمة الأنعام ليست كذلك جعل الفضلات تابعة للحوم والله أعلم. ومن قاس على بهيمة الأنعام غيرها جعل الفضلات كلها ما عدا فضلتي الإنسان غير نجسة ولا محرمة والمسألة محتملة، ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور، وإن كانت مسألة فيها خلاف لقيل إن ما ينتن منها ويستقذر بخلاف ما لا ينتن ولا يستقذر، وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة لاتفاقهم على إباحة العنبر وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر، وكذلك المسك، وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه فيما يذكر. -(المسألة السادسة) اختلف الناس في قليل النجاسات على ثلاثة أقوال: فقوم رأوا قليلها وكثيرها سواء، وممن قال بهذا القول الشافعي. وقوم رأوا أن قليل النجاسات معفو عنه، وحدوه بقدر الدرهم البغلي، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة، وشذ محمد بن الحسن فقال: إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دونه جازت به الصلاة. وقال فريق ثالث: قليل النجاسات وكثيرها سواء إلا الدم على ما تقدم، وهو مذهب مالك، وعنه في دم الحيض روايتان والأشهر مساواته لسائر الدماء. وسبب اختلافهم اختلافهم في قياس قليل النجاسة على الرخصة الواردة في الاستجمار للعلم بأن النجاسة هناك باقية، فمن أجاز القياس على ذلك استجاز قليل النجاسة، ولذلك حدوه بالدرهم قياسا على قدر المخرج، ومن رأى أن تلك رخصة والرخص لا يقاس عليها منع ذلك. وأما سبب استثناء مالك من ذلك الدماء، فقد تقدم، وتفصيل مذهب أبي حنيفة أن النجاسات عنده تنقسم إلى مغلظة ومخففة، وأن المغلظة هي التي يعفى منها عن قدر الدرهم، والمخففة هي التي يعفى منها عن ربع الثوب، والمخففة عندهم مثل أرواث الدواب، وما لا تنفك منه الطرق غالبا، وتقسيمهم إياها إلى مغلظة ومخففة حسن جدا. -(المسألة السابعة) اختلفوا في المني: هل هو نجس أم لا؟ فذهبت طائفة منهم مالك وأبو حنيفة إلى أنه نجس، وذهبت طائفة إلى أنه طاهر، وبهذا قال الشافعي وأحمد وداود وسبب اختلافهم فيه شيئان: أحدهما اضطراب الرواية في حديث عائشة وذلك أن في بعضها "كنت أغسل ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المني فيخرج إلى الصلاة وإن فيه لبقع الماء" وفي بعضها "أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي بعضها "فيصلي فيه" خرج هذه الزيادة مسلم. والسبب الثاني تردد المني بين أن يشبه بالأحداث الخارجة من البدن، وبين أن يشبه بخروج الفضلات الطاهرة كاللبن وغيره، فمن جمع الأحاديث كلها بأن حمل الغسل على باب النظافة، واستدل من الفرك على الطهارة على أصله في أن الفرك لا يطهر نجاسة، وقاسه على اللبن وغيره من الفضلات الشريفة لم يره نجسا، ومن رجح حديث الغسل على الفرك وفهم منه النجاسة وكان بالأحداث عنده أشبه منه مما ليس بحدث قال: إنه نجس، وكذلك أيضا من اعتقد أن النجاسة تزول بالفرك قال: الفرك يدل على نجاسته كما يدل الغسل وهو مذهب أبي حنيفة، وعلى هذا فلا حجة لأولئك في قولها فيصلي فيه، بل فيه حجة لأبي حنيفة في أن النجاسة تزال بغير الماء وهو خلاف قول الماليكة. الباب الثالث في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها. -وأما المحال التي تزال عنها النجاسات فثلاثة ولا خلاف في ذلك: أحدها الأبدان، ثم الثياب، ثم المساجد ومواضع الصلاة. وإنما اتفق العلماء على هذه الثلاثة لأنها منطوق بها في الكتاب والسنة. أما الثياب ففي قوله تعالى الباب الرابع في الشيء الذي تزال به. -وأما الشيء الذي به تزال، فإن المسلمين اتفقوا على أن الماء الطاهر المطهر يزيلها من هذه الثلاثة المحال، واتفقوا أيضا على أن الحجارة تزيلها من المخرجين، واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها. فذهب قوم إلى أن ما كان طاهرا يزيل عين النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال قوم: لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار فقط المتفق عليه، وبه قال مالك والشافعي. واختلفوا أيضا في إزالتها في الاستجمار بالعظم والروث، فمنع ذلك قوم، وأجازه بغير ذلك مما ينقي، واستثنى مالك من ذلك ما هو مطعوم ذو حرمة كالخبز، وقد قيل ذلك فيما في استعماله سرف كالذهب والياقوت. وقوم قصروا الإنقاء على الأحجار فقط، وهو مذهب أهل الظاهر. وقوم أجازوا الاستنجاء بالعظم دون الروث وإن كان مكروها عندهم. وشذ الطبري فأجاز الاستجمار بكل طاهر ونجس. وسبب اختلافهم في إزالة النجاسة بما عدا الماء فيما عدا المخرجين هو: هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها؟ أم للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء، فمن لم يظهر عنده للماء مزيد خصوص قال بإزالتها بسائر المائعات والجامدات الطاهرة، وأيد هذا المفهوم بالاتفاق على إزالتها من المخرجين بغير الماء، وبما ورد من حديث أم سلمة أنها قالت "إني أمرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده" وكذلك بالآثار التي خرجها أبو داود في هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام "إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب له طهور" إلى غير ذلك مما روي في هذا المعنى، ومن رأى أن للماء في ذلك مزيد خصوص منع ذلك إلا في موضع الرخصة فقط، وهو المخرجان، ولما طالبت الحنفية الشافعية بذلك الخصوص المزيد الذي للماء لجئوا في ذلك إلى أنها عبادة إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا، حتى أنهم سلموا أن الماء لا يزيل النجاسة بمعنى معقول، وإنما إزالته بمعنى شرعي حكمي، وطال الخطب والجدل بينهم: هل إزالة النجاسة بالماء عبادة أو معنى معقول خلفا عن سلف، واطرت الشافعية إلى أن تثبت أن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في غيره، وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين، وأن المقصود إنما هو إزالة ذلك الحكم الذي اختص به الماء لإذهاب عين النجاسة، بل قد يذهب العين ويبقى الحكم فباعدوا المقصد وقد كانوا اتفقوا قبل مع الحنفيين أن طهارة النجاسة ليست طهارة حكمية أعني شرعية، ولذلك لم تحتج إلى نية ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره، ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب لكان قولا جيدا وغيره بعيد، بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء، ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في المذهب الفقه الجاري على المعاني وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم، فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع. وأما اختلافهم في الروث فسببه اختلافهم في المفهوم من النهي الوارد في ذلك عنه عليه الصلاة والسلام، أعني أمره عليه الصلاة والسلام أن لا يستنجي بعظم ولا روث، فمن دل عنده النهي على الفساد لم يجز ذلك، ومن لم ير ذلك إذ كانت النجاسة معنى معقولا حمل ذلك على الكراهية ولم يعده إلى إبطال الاستنجاء بذلك، ومن فرق بين العظام والروث فلأن الروث نجس عنده. الباب الخامس في صفة إزالتها. -وأما الصفة التي بها تزول فاتفق العلماء على أنها غسل ومسح ونضح لورود ذلك في الشرع وثبوته في الآثار. واتفقوا على أن الغسل عام لجميع أنواع النجاسات ولجميع محال النجاسات، وأن المسح بالأحجار يجوز في المخرجين ويجوز في الخفين وفي النعلين من العشب اليابس، وكذلك ذيل المرأة الطويل اتفقوا على أن طهارته هي على ظاهر حديث أم سلمة من العشب اليابس، واختلفوا من ذلك في ثلاث مواضع هي أصول هذا الباب: أحدها في النضح لأي نجاسة هو والثاني في المسح لأي محل هو ولأي نجاسة هو بعد أن اتفقوا على ما ذكرناه. والثالث اشتراط العدد في الغسل والمسح. أما النضح فإن قوما قالوا: هذا خاص بإزالة بول الطفل الذي لم يأكل الطعام. وقوم فرقوا بين بول الذكر في ذلك والأنثى، فقالوا: ينضح بول الذكر ويغسل بول الأنثى، وقوم قالوا: الغسل طهارة ما يتيقن بنجاسته، والنضح طهارة ما شك فيه، وهو مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك، أعني اختلافهم في مفهومها، وذلك أن ههنا حديثين ثابتين في النضح: أحدهما حديث عائشة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم، فأتى بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله" وفي بعض رواياته "فنضحه ولم يغسله" خرجه البخاري والآخر حديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته قال: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبث، فنضحته بالماء. فمن الناس من صار إلى العمل بمقتضى حديث عائشة. وقال: هذا خاص ببول الصبي واستثناه من سائر البول. ومن الناس من رحج الآثار الواردة في الغسل على هذا الحديث، وهو مذهب مالك، ولم ير النضح إلا الذي في حديث أنس، وهو الثوب المشكوك فيه على ظاهر مفهومه. وأما الذي فرق في ذلك بين بول الذكر والأنثى، فإنه اعتمد على ما رواه أبو داود عن أبي السمح من قوله عليه الصلاة والسلام "يغسل بول الجارية ويرش بول الصبي" وأما من لم يفرق فإنما اعتمد قياس الأنثى على الذكر الذي ورد فيه الحديث الثابت. وأما المسح فإن قوما أجازوه في أي محل كانت النجاسة إذا ذهب عينها على مذهب أبي حنيفة، وكذلك الفرك على قياس من يرى أن كل ما أزال العين فقد طهر، وقوم لم يجيزوه إلا في المتفق عليه وهو المخرج وفي ذيل المرأة وفي الخف، وذلك من العشب اليابس لا من الأذى غير اليابس وهو مذهب مالك، وهؤلاء لم يعدوا المسح إلى غير المواضع التي جاءت في الشرع، وأما الفريق الآخر فإنهم عدوه. والسبب في اختلافهم في ذلك هل ما ورد من ذلك رخصة أو حكم؟ فمن قال رخصة لم يعدها إلى غيرها: أعني لم يقس عليها، ومن قال هو حكم من أحكام إزالة النجاسة كحكم الغسل عداه. وأما اختلافهم في العدد، فإن قوما اشترطوا الإبقاء فقط في الغسل والمسح، وقوم اشترطوا العدد في الاستجمار وفي الغسل، والذين اشترطوه في الغسل منهم من اقتصر على المحل الذي ورد فيه العدد في الغسل بطريق السمع، ومنهم من عداه إلى سائر النجاسات، أما من لم يشترط العدد لا في غسل ولا في مسح فمنهم مالك وأبو حنيفة، وأما من اشترط في الاستجمار العدد: أعني ثلاثة أحجار لا أقل من ذلك، فمنهم الشافعي وأهل الظاهر، وأما من اشترط العدد في الغسل واقتصر به على محله الذي ورد فيه وهو غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب، فالشافعي ومن قال بقوله. وأما من عداه واشترط السبع في غسل النجاسات ففي أغلب ظني أن أحمد بن حنبل منهم. وأبو حنيفة يشترط الثلاثة في إزالة النجاسة الغير محسوسة العين أعني الحكمية. وسبب اختلافهم في هذا تعارض المفهوم من هذه العبادة لظاهر اللفظ في الأحاديث التي ذكر فيها العدد، وذلك أن من كان المفهوم عنده من الأمر بإزالة النجاسة إزالة عينها لم يشترط العدد أصلا، وجعل العدد الوارد من ذلك في الاستجمار في حديث سلمان الثابت الذي فيه الأمر أن لا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار على سبيل الاستحباب حتى يجمع بين المفهوم من الشرع والمسموع من هذه الأحاديث، وجعل العدد المشترط في غسل الإناء من ولوغ الكلب عبادة لا لنجاسة كما تقدم من مذهب مالك. وأما من صار إلى ظواهر هذه الآثار واستثناها من المفهوم فاقتصر بالعدد على هذه المحال التي ورد العدد فيها، وأما من رجح الظاهر على المفهوم فإنه عدى ذلك إلى سائر النجاسات. وأما حجة أبي حنيفة في الثلاثة فقوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في إنائه". الباب السادس في آداب الاستنجاء. -وأما آداب الاستنجاء ودخول الخلاء فأكثرها محمولة عند الفقهاء على الندب، وهي معلومة من السنة كالبعد في المذهب إذا أراد الحاجة وترك الكلام عليها، والنهي عن الاستنجاء باليمين، وأن لا يمس ذكره بيمينه، وغير ذلك مما ورد في الآثار، وإنما اختلفوا من ذلك في مسألة واحدة مشهورة وهي استقبال القبلة للغائط والبول واستدبارها، فإن للعلماء فيها ثلاثة أقوال: أنه لا يجوز أن تستقبل القبلة لغائط ولا بول أصلا، ولا في موضع من المواضع، وقول إن ذلك يجوز بإطلاق. وقول إنه يجوز في المباني والمدن ولا يجوز ذلك في الصحراء وفي غير المباني والمدن. والسبب في اختلافهم هذا حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي أيوب الأنصاري أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا". والحديث الثاني حديث عبد الله بن عمر أنه قال "ارتقيت على ظهر بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر القبلة" فذهب الناس في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الجمع. والثاني مذهب الترجيح. والثالث مذهب الرجوع إلى البراءة الأصلية إذا وقع التعارض، وأعني بالبراءة الأصلية عدم الحكم، فمن ذهب مذهب الجمع حمل حديث أبي أيوب الأنصاري على الصحاري وحيث لا سترة، وحمل حديث ابن عمر على السترة، وهو مذهب مالك. ومن ذهب مذهب الترجيح رجح حديث أبي أيوب، لأنه إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع، والآخر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب أن يصار إلى الحديث المثبت للشرع، لأنه قد وجب العمل بنقله من طريق العدول، وتركه الذي ورد أيضا من طريق العدول يمكن أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم، ويمكن أن يكون بعده، فلم يجز أن نترك شرعا وجب العمل به بظن لم نؤمر أن نوجب النسخ به إلا لو نقل أنه كان بعده، فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع: أعني التي توجب رفعها أو إيجابها، وليست هي أي ظن اتفق، ولذلك يقولون إن العمل ما لم يجب بالظن وإنما وجب بالأصل المقطوع به، يريدون بذلك الشرع المقطوع به الذي أوجب العمل بذلك النوع من الظن، وهذه الطريقة التي قلناها هي طريقة أبي محمد بن حزم الأندلسي، وهي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي، وهو راجع إلى أنه لا يرتفع بالشك ما ثبت بالدليل الشرعي. وأما من ذهب مذهب الرجوع إلى الأصل عند التعارض فهو مبني على أن الشك يسقط الحكم ويرفعه وأنه كلا حكم، وهو مذهب داود الظاهري، ولكن خالفه أبو محمد بن حزم في هذا الأصل مع أنه من أصحابه. قال القاضي: فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول، وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك، أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به، إما تعلقا قريبا، أو قريبا من القريب، وإن تذكرنا لشيء من هذا الجنس أثبتناه في هذا الباب، وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار، وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه، والله المعين والموفق. كتاب الصلاة. -(بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. الصلاة تنقسم أولا وبالجملة إلى فرض، وندب. والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر بالجملة في أربعة أجناس: أعني أربع جمل: الجملة الأولى: في معرفة الوجوب وما يتعلق به. والجملة الثانية: في معرفة شروطها الثلاث: أعني شروط الوجوب وشروط الصحة وشروط التمام والكمال. والجملة الثالثة: في معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال، وهي الأركان. والجملة الرابعة في قضائها ومعرفة إصلاح ما يقع فيها من الخلل وجبره، لأنه قضاء ما إذا كان استدراكا لما فات. ( - -(المسألة الأولى) أما وجوبها فبين من الكتاب والسنة والإجماع، وشهرة ذلك تغني عن تكلف القول فيه. -(المسألة الثانية) وأما عدد الواجب منها ففيه قولان: أحدهما قول مالك والشافعي والأكثر، وهو أن الواجب هي الخمس صلوات فقط لا غير. والثاني قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو أن الوتر واجب مع الخمس، واختلافهم هل يسمى ما ثبت بالسنة واجبا أو فرضا لا معنى له؟. وسبب اختلافهم الأحاديث المتعارضة. أما الأحاديث التي مفهومها وجوب الخمس فقط بل هي نص في ذلك فمشهورة وثابتة، ومن أبينها في ذلك ما ورد في حديث الإسراء المشهور "أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال له موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعته، فقال تعالى: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي" وحديث الأعرابي المشهور الذي سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام فقال له: "خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع" وأما الأحاديث التي مفهومها وجوب الوتر، فمنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر فحافظوا عليها" وحديث حارثة بن حذافة قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر وجعلها لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا" فمن رأى أن الزيادة هي نسخ ولم تقو عنده هذه الأحاديث قوة تبلغ بها أن تكون ناسخة لتلك الأحاديث الثابتة المشهورة رجح تلك الأحاديث، وأيضا فإنه ثبت من قوله تعالى في حديث الإسراء "إنه لا يبدل القول لدي" وظاهره أنه لا يزاد فيها ولا ينقص منها وإن كان هو في النقصان أظهر، والخبر ليس يدخله النسخ، ومن بلغت عنده قوة هذه الأخبار التي اقتضت الزيادة على الخمس إلى رتبة توجب العمل أوجب المصير الى هذه الزيادة، لا سيما إن كان ممن يرى أن الزيادة لا توجب نسخا، لكن ليس هذا من رأي أبي حنيفة. -(المسألة الثالثة) وأما على من تجب فعلى المسلم البالغ ولا خلاف في ذلك. -(المسألة الرابعة) وأما ما الواجب على من تركها عمدا وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحودا لفرضها، فإن قوما قالوا: يقتل، وقوما قالوا: يعزر ويحبس، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفرا، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك، ومنهم من أوجبه حدا وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي. والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس" وروي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث بريدة أنه قال "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليس بين العبد وبين الكفر {أو قال الشرك} إلا ترك الصلاة" فمن فهم من الكفر ههنا الكفر الحقيقي جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام "كفر بعد إيمان" ومن فهم ههنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال كافر وأنه في صورة كافر كما قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" ولم ير قتله كفرا. وأما من قال يقتل حدا فضعيف ولا مستند له إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن، وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات، والقتل رأس المنهيات. وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب إلا أن يتركها معتقدا لتركها هكذا، فنحن إذن بين أحد أمرين: إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي يجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة معتقدا لتركها فقد كفر، وإما أن يحمل على اسم الكفر على غير موضوعه الأول، وذلك على أحد معنيين: إما على أن حكمه حكم الكافر: أعني في القتل وسائر أحكام الكفار وإن لم يكن مكذبا، وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له: أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذ كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة والسلام "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه لا يجب المصير إليه إلا بدليل لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه، فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على المعنى المجازي لا على معنى يوجب حكما لم يثبت بعد في الشرع بل يثبت ضده، وهو أنه لا يحل دمه إذ هو خارج عن الثلاث الذين نص عليهم الشرع فتأمل هذا، فإنه بين والله أعلم. أعني أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفا إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر، وإما أن نحمله على المعنى المستعار، وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن فشيء مفارق للأصول، مع أن الحديث نص في حق من يجب قتله كفرا أو حدا، ولذلك صار هذا القول مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب. (الجملة الثانية في الشروط) -وهذه الجملة فيها ثمانية أبواب: الباب الأول: في معرفة الأوقات. الثاني: في معرفة الأذان والإقامة. الثالث: في معرفة القبلة. الرابع: في ستر العورة واللباس في الصلاة. الخامس: في اشتراط الطهارة من النجس في الصلاة. السادس: في تعيين المواضع التي يصلي فيها من المواضع التي لا يصلي فيها. السابع: في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاة. الثامن: في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة. الباب الأول في معرفة الأوقات. -وهذا الباب ينقسم أولا إلى فصلين: الأول في معرفة الأوقات المأمور بها. الثاني في معرفة الأوقات المنهي عنها. الفصل الأول في معرفة الأوقات المأمور بها. -وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضا: القسم الأول في الأوقات الموسعة والمختارة. والثاني في أوقات أهل الضرورة. -القسم الأول من الفصل الأول من الباب الأول من الجملة الثانية. والأصل في هذا الباب قوله تعالى -(المسألة الأولى) اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال، إلا خلافا شاذا روي عن ابن عباس، وإلا ما روي من الخلاف في صلاة الجمعة على ما سيأتي، واختلفوا منها في موضعين في آخر وقتها الموسع وفي وقتها المرغب فيه. فأما آخر وقتها الموسع فقال مالك والشافعي وأبو ثور وداود هو أن يكون ظل كل شيء مثله. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أن يكون ظل كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه، وهو عنده أول وقت العصر. وقد روي عنه أن آخر وقت الظهر هو المثل، وأول وقت العصر المثلان، وأن ما بين المثل والمثلين ليس يصلح لصلاة الظهر، وبه قال صاحباه أبو يوسف ومحمد. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الأحاديث وذلك أنه ورد في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، ثم قال: "الوقت ما بين هذين" وروي عنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطينا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء" فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة جبريل، وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا، وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث، فواجب أن يكون العصر أكثر من قامة، وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر. وقال أبو محمد بن حزم: وليس كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر. قال القاضي: أنا الشاك في الكسر، وأظنه قال: وثلث حجة من قال باتصال الوقتين، أعني اتصالا لا بفصل غير منقسم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت أخرى" وهو حديث ثابت. وأما وقتها المرغب فيه والمختار فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلا في مساجد الجماعات. وقال الشافعي: أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر. وروي مثل ذلك عن مالك. وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد، وإنما اختلفوا في ذلك لاختلاف الأحاديث، وذلك أن في ذلك حديثين ثابتين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم" والثاني "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر بالهاجرة" وفي حديث خباب "أنهم شكوا إليه حر الرمضاء فلم يشكهم" خرجه مسلم. قال زهير رواي الحديث: قلت لأبي إسحاق شيخه أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجليها؟ قال: نعم، فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو نص، وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص. وقوم رجحوا هذه الأحاديث لعموم ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام "وقد سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول ميقاتها" والحديث متفق عليه، وهذه الزيادة فيه، أعني "لأول ميقاتها" مختلف فيه. -(المسألة الثانية) اختلفوا من صلاة العصر في موضعين: أحدهما في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت صلاة الظهر. والثاني في آخر وقتها. فأما اختلافهم في الاشتراك فإنه اتفق مالك والشافعي وداود وجماعة على أن أول وقت العصر هو بعينه آخر وقت الظهر، وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله، إلا أن مالكا يرى أن آخر وقت الظهر وأول وقت العصر هو وقت مشترك للصلاتين معا: أعني بقدر ما يصلي فيه أربع ركعات. وأما الشافعي وأبو ثور وداود فآخر وقت الظهر عندهم هو الآن الذي هو أول وقت العصر هو زمان غير منقسم. وقال أبو حنيفة كما قلنا أول وقت العصر إلى أن يصير، ظل كل شيء مثليه، وقد تقدم سبب اختلاف أبي حنيفة معهم في ذلك. وأما سبب اختلاف مالك مع الشافعي ومن قال بقوله في هذه فمعارضة حديث جبريل في هذا المعنى لحديث عبد الله بن عمر، وذلك أنه جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول. وفي حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر" خرجه مسلم. فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركا، ومن رجح حديث عبد الله لم يجعل بينهما اشتراكا، وحديث جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد الله من حديث عبد الله إلى حديث جبريل، لأنه يحتمل أن يكون الراوي تجوز في ذلك لقرب ما بين الوقتين، وحديث إمامة جبريل صححه الترمذي، وحديث ابن عمر خرجه مسلم. وأما اختلافهم في آخر وقت العصر فعن مالك في ذلك روايتان إحداهما: أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه، وبه قال الشافعي. والثانية أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس، وهذا قول أحمد بن حنبل. وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك ثلاثة أحاديث متعارضة: الظاهر أحدها حديث عبد الله بن عمر خرجه مسلم وفيه "فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس" وفي بعض رواياته "وقت العصر ما لم تصفر الشمس". والثاني حديث ابن عباس في إمامة جبريل، وفيه "أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه". والثالث حديث أبي هريرة المشهور "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" فمن صار إلى ترجيح حديث إمامة جبريل جعل آخر وقتها المختار المثلين (ومن صار إلى ترجيح حديث ابن عمر جعل آخر وقتها اصفرار الشمس) (ما بين القوسين زائد بالنسخة المطبوعة بفاس أثبتناه لأنه من الضروري) ومن صار إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال: وقت العصر إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس، وهم أهل الظاهر كما قلنا. وأما الجمهور فسلكوا في حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر مع حديث ابن عباس إذ كان معارضا لهما كل التعارض مسلك الجمع، لأن حديثي ابن عباس وابن عمر تتقارب الحدود المذكورة فيهما، ولذلك قال مالك مرة بهذا، ومرة بذلك. وأما الذي في حديث أبي هريرة فبعيد منهما ومتفاوت فقالوا: حديث أبي هريرة إنما خرج مخرج أهل الأعذار. -(المسألة الثالثة) اختلفوا في المغرب هل لها وقت موسع كسائر الصلوات أم لا؟ فذهب قوم إلى أن وقتها واحد غير موسع، وهذا هو أشهر الروايات عن مالك وعن الشافعي. وذهب قوم إلى أن وقتها موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور وداود وقد روي هذا القول عن مالك والشافعي. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، وفي حديث عبد الله "ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق" فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحد، ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتا موسعا، وحديث عبد الله خرجه مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل: أعني حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم قال له: الوقت ما بين هذين، والذي في حديث عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة الأسلمي، خرجه مسلم، وهو أصل في هذا الباب. قالوا: وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات، وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة. -(المسألة الرابعة) اختلفوا من وقت العشاء الآخرة في موضعين: أحدهما في أوله، والثاني في آخره. أما أوله فذهب مالك والشافعي وجماعة إلى أنه مغيب الحمرة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه مغيب البياض الذي يكون بعد الحمرة. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك الشفق شفقان: أحمر، وأبيض. ومغيب الشفق الأبيض يلزم أن يكون بعده من أول الليل (إما بعد الفجر المستدق من آخر الليل: أعني الفجر الكاذب، وإما بعد الفجر الأبيض المستطير وتكون الحمرة نظير الحمرة، فالطوالع إذا أربعة: الفجر الكاذب، والفجر الصادق، والأحمر والشمس، وكذلك يجب أن تكون الغوارب ولذلك ما ذكر عن الخليل من أنه رصد الشفق الأبيض فوجده يبقى إلى ثلث الليل كذب بالقياس والتجربة (ما بين القوسين زيادة بالنسخة المصرية غير موجودة بالنسخة الفاسية فأثبتناها كما هي ا هـ))، وذلك أنه لا خلاف بينهم أنه قد ثبت في حديث بريدة وحديث إمامة جبريل أنه صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وقد رجح الجمهور مذهبهم بما ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء عند مغيب القمر في الليلة الثالثة" ورجح أبو حنيفة مذهبة بما ورد في تأخير العشاء واستحباب تأخيره وقوله "لولا أن أشق على أمتي لأخرت هذه الصلاة إلى نصف الليل" وأما آخر وقتها فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: قول إنه ثلث الليل. وقول إنه نصف الليل وقول إنه إلى طلوع الفجر، وبالأول: أعني ثلث الليل، قال الشافعي وأبو حنيفة، وهو المشهور من مذهب مالك، وروي عن مالك القول الثاني: أعني نصف الليل، وأما الثالث فقول داود. وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار، ففي حديث إمامة جبريل أنه صلاها بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني ثلث الليل. وفي حديث أنس أنه قال "أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل" خرجه البخاري. وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل" وفي حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى. فمن ذهب مذهب الترجيح لحديث إمامة جبريل قال ثلث الليل، ومن ذهب مذهب الترجيح لحديث أنس قال شطر الليل. وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي قتادة وقالوا هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة جبريل فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض الآثار يسقط حكمها، فيجب أن يصار إلى استصحاب حال الإجماع، وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما بعد طلوع الفجر واختلفوا فيما قبل، فإنا روينا عن ابن عباس أن الوقت عنده إلى طلوع الفجر فوجب أن يستصحب حكم الوقت، إلا حيث وقع الاتفاق على خروجه وأحسب أنه به قال أبو حنيفة. -(المسألة الخامسة) واتفقوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس، إلا ما روي عن ابن القاسم وعن بعض أصحاب الشافعي من أن آخر وقتها الإسفار. واختلفوا في وقتها المختار، فذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل، وذهب مالك والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود إلى أن التغليس بها أفضل، وسبب اختلافهم اختلافهم في طريقة جمع الأحاديث المختلفة الظواهر في ذلك، وذلك أنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام من طريق رافع بن خديج أنه قال "أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر" وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال وقد سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول ميقاتها" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس" وظاهر الحديث أنه كان عمله في الأغلب، فمن قال إن حديث رافع خاص وقوله "الصلاة لأول ميقاتها" عام، والمشهور أن الخاص يقضي عن العام إذا هو استثنى من هذا العموم صلاة الصبح وجعل حديث عائشة محمولا على الجواز، وأنه إنما تضمن الإخبار بوقوع ذلك منه لا بأنه كان ذلك غالب أحواله صلى الله عليه وسلم قال: الإسفار أفضل من التغليس. ومن رجح حديث العموم لموافقة حديث عائشة له، ولأنه نص في ذلك أو ظاهر، وحديث رافع بن خديج محتمل، لأنه يمكن أن يريد بذلك تبين الفجر وتحققه، فلا يكون بينه وبين حديث عائشة ولا العموم الوارد في ذلك تعارض قال: أفضل الوقت أوله. وأما من ذهب إلى أن آخر وقتها الإسفار فإنه تأول الحديث في ذلك أنه لأهل الضرورات: أعني قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" وهذا شبيه بما فعله الجمهور في العصر. والعجب أنهم عدلوا عن ذلك في هذا ووافقوا أهل الظاهر، ولذلك لأهل الظاهر أن يطالبوهم بالفرق بين ذلك. -القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الأول. فأما أوقات الضرورة والعذر فأثبتها كما قلنا فقهاء الأمصار ونفاها أهل الظاهر، وقد تقدم سبب اختلافهم في ذلك. واختلف هؤلاء الذين أثبتوها في ثلاثة مواضع: أحدها لأي الصلوات توجد هذه الأوقات ولأيها لا؟ والثاني في حدود هذه الأوقات. والثالث في من هم أهل العذر الذين رخص لهم في هذه الأوقات وفي أحكامهم في ذلك: أعني من وجوب الصلاة ومن سقوطها. -(المسألة الأولى) اتفق مالك والشافعي على أن هذا الوقت هو لأربع صلوات: للظهر والعصر مشتركا بينهما، والمغرب والعشاء كذلك، وإنما اختلفوا في جهة اشتراكهما على ما سيأتي بعد، وخالفهم أبو حنيفة فقال: إن هذا الوقت إنما هو للعصر فقط، وأنه ليس ههنا وقت مشترك. وسبب اختلافهم في ذلك هو اختلافهم في جواز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما على ما سيأتي بعد، فمن تمسك بالنص الوارد في صلاة العصر أعني الثابت من قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل مغيب الشمس فقد أدرك العصر" وفهم من هذا الرخصة، ولم يجز الاشتراك في الجمع لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يفوت وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى" ولما سنذكره بعد في باب الجمع من حجج الفريقين قال: إنه لا يكون هذا الوقت إلا لصلاة العصر فقط. ومن أجاز الاشتراك في الجمع في السفر قاس عليه أهل الضرورات، لأن المسافر أيضا صاحب ضرورة وعذر، فجعل هذا الوقت مشتركا للظهر والعصر والمغرب والعشاء. -(المسألة الثانية) اختلف مالك والشافعي في آخر الوقت المشترك لهما، فقال مالك: هو للظهر والعصر من بعد الزوال، بمقدار أربع ركعات للظهر للحاضر وركعتين للمسافر، إلى أن يبقى للنهار مقدار أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر فجعل الوقت الخاص للظهر إنما هو مقدار أربع ركعات للحاضر بعد الزوال، وإما ركعتان للمسافر، وجعل الوقت الخاص بالعصر إما أربع ركعات قبل المغيب للحاضر وإما ثنتان للمسافر: أعني أنه من أدرك الوقت الخاص فقط لم تلزمه إلا الصلاة الخاصة بذلك الوقت إن كان ممن لم تلزمه الصلاة قبل ذلك الوقت، ومن أدرك أكثر من ذلك أدرك الصلاتين معا أو حكم ذلك الوقت وجعل آخر الوقت الخاص لصلاة العصر مقدار ركعة قبل الغروب، وكذلك فعل في اشتراك المغرب والعشاء، إلا أن الوقت الخاص مرة جعله للمغرب فقال: هو مقدار ثلاث ركعات قبل أن يطلع الفجر، ومرة جعله للصلاة الأخيرة كما فعل في العصر فقال هو مقدار أربع ركعات وهو القياس، وجعل آخر هذا الوقت مقدار ركعة قبل طلوع الفجر. وأما الشافعي فجعل حدود أواخر هذه الأوقات المشتركة حدا واحدا وهو إدراك ركعة قبل غروب الشمس، وذلك للظهر والعصر معا، ومقدار ركعة أيضا قبل انصداع الفجر وذلك للمغرب والعشاء معا، وقد قيل عنه بمقدار تكبيرة: أعني أنه من أدرك تكبيرة قبل غروب الشمس فقد لزمته صلاة الظهر والعصر معا. وأما أبو حنيفة فوافق مالكا في أن آخر وقت العصر مقدار ركعة لأهل الضرورات عنده قبل الغروب ولم يوافق في الاشتراك والاختصاص. وسبب اختلافهم أعني مالكا والشافعي هل القول باشتراك الوقت للصلاتين معا يقتضي أن لهما وقتين: وقت خاص بهما ووقت مشترك؟ أم إنما يقتضي أن لهما وقتا مشتركا فقط؟ وحجة الشافعي أن الجمع إنما دل على الاشتراك فقط لا على وقت خاص. وأما مالك فقاس الاشتراك عنده في وقت الضرورة على الاشتراك عنده في وقت التوسعة: أعني أنه لما كان لوقت الظهر والعصر الموسع وقتان، وقت مشترك ووقت خاص، وجب أن يكون الأمر كذلك في أوقات الضرورة، والشافعي لا يوافقه على اشتراك الظهر والعصر في وقت التوسعة، فخلافهما في هذه المسألة إنما ينبني والله أعلم على اختلافهم في تلك الأولى فتأمله، فإنه بين والله أعلم. -(المسألة الثالثة) وأما هذه الأوقات: أعني أوقات الضرورة، فاتفقوا على أنها لأربع: للحائض تطهر في هذه الأوقات أو تحيض في هذه الأوقات وهي لم تصل، والمسافر يذكر الصلاة في هذه الأوقات وهو حاضر، أو الحاضر يذكرها فيها وهو مسافر، والصبي يبلغ فيها، والكافر يسلم. واختلفوا في المغمي عليه فقال مالك والشافعي: هو كالحائض من أهل هذه الأوقات لأنه لا يقضي عندهم الصلاة التي ذهب وقتها. وعند أبي حنيفة أنه يقضي الصلاة فيما دون الخمس، فإذا أفاق عنده من إغمائه متى ما أفاق قضى الصلاة. وعند الآخر أنه إذا أفاق في أوقات الضرورة لزمته الصلاة التي أفاق في وقتها، وإذا لم يفق فيها لم تلزمه الصلاة، وستأتي مسألة المغمى عليه فيما بعد، واتفقوا على أن المرأة إذا طهرت في هذه الأوقات إنما تجب عليها الصلاة التي طهرت في وقتها، فإن طهرت عند مالك وقد بقي من النهار أربع ركعات لغروب الشمس إلى ركعة فالعصر فقط لازمة لها وإن بقي خمس ركعات فالصلاتان معا. وعند الشافعي إن بقي ركعة للغروب فالصلاتان معا كما قلنا، أو تكبيرة على القول الثاني له، وكذلك الأمر عند مالك في المسافر الناسي يحضر في هذه الأوقات، أو الحاضر يسافر، وكذلك الكافر يسلم في هذه الأوقات: أعني أنه تلزمهم الصلاة، وكذلك الصبي يبلغ، والسبب في أن جعل مالك الركعة جزءا لآخر الوقت، وجعل الشافعي جزء الركعة حدا مثل التكبيرة. منها أن قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهو عند مالك من باب التنبيه بالأقل على الأكثر، وعند الشافعي من باب التنبيه بالأكثر على الأقل، وأيد هذا بما روي "من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" فإنه فهم من السجدة ههنا جزء من الركعة وذلك على قوله الذي قال فيه: من أدرك منهم تكبيرة قبل الغروب أو الطلوع فقد أدرك الوقت. ومالك يرى أن الحائض إنما تعتد بهذا الوقت بعد الفراغ من طهرها، وكذلك الصبي يبلغ. وأما الكافر يسلم فيعتد له بوقت الإسلام دون الفراغ من الطهر وفيه خلاف. والمغمى عليه عند مالك كالحائض، وعند عبد الملك كالكافر يسلم. ومالك يرى أن الحائض إذا حاضت في هذه الأوقات وهي لم تصل بعد أن القضاء ساقط عنها، والشافعي يرى أن القضاء واجب عليها، وهو لازم لمن يرى أن الصلاة تجب بدخول أول الوقت، لأنها إذا حاضت وقد مضى من الوقت ما يمكن أن تقع فيه الصلاة فقد وجبت عليها الصلاة، إلا أن يقال إن الصلاة إنما تجب بآخر الوقت، وهو مذهب أبي حنيفة لا مذهب مالك، فهذا كما ترى لازم لقول أبي حنيفة أعني جاريا على أصوله لا على أصول قول مالك.
|